حين تهمس الأقدار بحكاياتها
كلنا نحلم بحياة تشبه الشِّعر، حياة تنبض بالمفاجآت، بالمواعيد القدرية التي تأخذنا إلى حيث لم نتخيل. لا أحد منا يكبر وهو يطلب من الأقدار حياة عادية، لا أحد يرفع عينيه نحو السماء متمنيًا أن يكون مجرد ظل باهت في قصة الحياة. نؤمن، حدّ اليقين، بأن لنا نصيبًا من العظمة، بأن الكون خبأ لنا دروبًا مرصوفة بالدهشة، وبأن الأيام ستحمل إلينا لحظات تُسرق لها الأنفاس
نرسم في خيالنا طرقًا واضحة، نخطو بثقة نحو الأحلام التي نقشناها في قلوبنا. نتخيل أن الوصول هو المسألة الوحيدة، أن النهايات السعيدة محضُ انتظار. نقنع أنفسنا أن الحياة ستمنحنا ما نستحقه لأننا آمنا به
نحلم بمدن تحتضننا، بحب لا يتلاشى، بفرحٍ لا يخذل. نتخيل الضحكات التي ستملأ أيامنا، الأصدقاء الذين لن يرحلوا، النجاح الذي لن يتعثر، الحب الذي لن يبهت، والسعادة التي لن تكون يومًا على قائمة الانتظار
ثم نصل
لكن الطريق لا يكون كما تخيلناه
ندرك أن الأحلام قد تذوب بين أصابع الواقع، وأن التوقعات الكبيرة قد تتحطم عند أعتاب الأيام العادية. الوظيفة التي حلمنا بها تصبح روتينًا مرهقًا، الحب الذي ظنناه ملاذًا يتحول إلى صراع بين البقاء والخذلان، واللحظات التي انتظرناها طويلاً تمر دون أن تشعر بنا. فجأة، تبدو الحياة كأنها نسخة باهتة من الحكايات التي وعدنا أنفسنا بها
نشعر وكأننا خُدعنا، وكأن الحياة التي سعينا خلفها ليست سوى سراب. كأننا أضعنا العمر في الجري خلف ظل لحلم لم يكن يومًا لنا
لكن، ماذا لو كنا نطمح لما هو أقل من الحياة ذاتها؟
ماذا لو أن الأحلام التي رسمناها لم تكن سوى نقطة البداية، وأن الأقدار كانت تدخر لنا شيئًا أجمل، شيئًا لم يخطر لنا يومًا أن نتمناه؟
لأن الحياة، بحكمتها العتيقة، لا تعطينا ما نطلبه، بل تمنحنا ما نحتاجه لننمو، لنكبر، لنصبح النسخة الأكثر صدقًا من أنفسنا
نحن نخاف التغيير، نخشى أن نخطئ الطريق، نخشى أن نضيع في متاهة الاحتمالات، لكن ماذا لو كان الجمال كله في الأشياء التي لم نخطط لها؟ في اللقاءات التي لم نرتب لها، في الطرق التي قادتنا إلى أماكن لم نعرف أننا نحبها، في الحكايات التي لم نكتبها بأيدينا لكنها كتبتنا كما يجب؟
ألا تذكر اللحظات التي غيرتك؟ التي جعلتك أقرب إلى ذاتك؟ ألم تكن تلك اللحظات التي لم ترها قادمة؟ القطار الذي فاتك فأخذك إلى تجربة أخرى، الخطأ الذي قادك إلى مصير أجمل، العثرة التي أصبحت بابًا لمعجزة لم تطلبها؟
ربما آن لنا أن نكفّ عن رسم حكاياتنا بقلم جاف، أن نترك للمفاجآت حق الحضور، أن نتوقف عن ملاحقة اليقين، وأن نرقص مع الاحتمالات. ربما كان الكون يهمس لنا طوال الوقت: “اتركوا مساحة للدهشة، فالأشياء الجميلة لا تطرق الأبواب، بل تقتحم حياتنا حين لا نكون مستعدين لها
لأن المتوقع يجعلنا جامدين، مقيدين بحبال الأمان. لكنه لا يصنع الحياة، لا يصنع الشغف
الحياة الحقيقية تبدأ حين نسمح لها بأن تفاجئنا
حين نؤمن بأن الأقدار تعرف أكثر منا
حين نتوقف عن الركض خلف ما أردناه، لنحتضن ما كتبه لنا القدر
فهناك، في غير المتوقع، تبدأ الحكايات الأجمل