في زمنٍ صارت فيه المرايا تعرف أكثر مما يعرفه القلب عن وجهه، نحتاج إلى جراحاتٍ لا تُجرى بالمشرط، بل بالحقيقة.

هناك وجوهٌ تتجمّل كل صباحٍ بكريمات الوهم، تُخفي بثور الخيانة بألوان الخداع، وتُلبس الابتسامات المصنوعة كما يُلبس العطر على جلدٍ لا يغتسل.

ولكن المصيبة لم تكن يومًا في الوجوه، بل في النفوس التي تلبسها.

أجل، ثمة أناسٌ لا تنفعهم عيادات التجميل مهما اتسعت، لأن عيوبهم ليست في تقاسيمهم، بل في أعماقهم.

قلوبهم صغيرةٌ لا تتسع حتى لهم، فكيف تتسع للآخرين؟

ضمائرهم ذابلة كأوراق الخريف، تحتاج إلى من ينفخ فيها الحياة كما تنفخ الروح في جسدٍ غادره النبض.

عقولهم مترهلة، تتدلّى من جفونها أفكارٌ كسلانة، لا تقوى على النهوض فوق منصة العقلانية.

وفي دمائهم تسكن شوائب حقدٍ موروث، يتكاثر فيهم كما تتكاثر الخلايا السرطانية، بلا رحمة ولا شفاء.

آهٍ لو فُتِحت في هذا العالم عياداتٌ لتجميل النفس…

تُجري عمليات تكبيرٍ للقلوب التي ضاقت حتى اختنق فيها الحب،

وشدًّا لعقولٍ ترهّلت من طول السكون،

وشفطًا للأحقاد التي تراكمت كدهون سوداء على ناصية الروح،

وتكبيرًا للضمائر التي أصبحت كالنقطة، لا تكاد تُرى،

وتفتيتًا لخلايا الشر التي تنام خلف ابتسامةٍ وديعة، وتصحو كذئبٍ في عتمة.

في زمنٍ يُصنَع فيه الجمال من الخارج ويُهمل من الداخل،

نحتاج إلى مشرط شاعر، لا يُحدث جرحًا بل يرمّم الندوب،

إلى جرّاحٍ يُغنّي وهو يشقّ طبقات القلب،

إلى يدٍ تلمس النفس لا الجسد،

إلى علمٍ يعالج النقص لا يُخفيه،

إلى حبٍّ، ذلك الطبيب الوحيد الذي لا يرتدي معطفًا أبيض،

لكنه يشفي، إذا صدق.

يا من تسيرون بيننا بأجسادٍ كاملة ونفوسٍ مبتورة،

ألا تخجلون من قلوبٍ اختارت أن تحبّكم رغم فوضاكم؟

ألا تؤلمكم المرايا حين تنعكس فيها أرواحكم، لا وجوهكم؟

لقد تعبت الأرض من خطاكم، لأن أرواحكم أثقل من خطاياكم.

وأرهقتم السماء بدعواتٍ لا تليق إلا بمن يحملون في داخلهم سلامًا لا يتأذى به أحد.

ما أجمل لو أن الإنسان، قبل أن يركض إلى عيادات التجميل،

وقف أمام نفسه عاريًا من الأعذار،

وسألها: من أنا حين أُطفئ الضوء، ولا يبقى غيري معي؟

هل أستحق أن يُحَبّني أحد؟

هل قلبي بيتٌ أم ساحة حرب؟

هل ضميري حيٌّ أم أعيش بجثة شعور؟

يا ليتنا نعرف، أن بعض الجراح لا تُرى،

لكنها تؤلم أكثر من كسور العظام،

وأن بعض التجميل لا يُصنع من سيليكون،

بل من دمعة ندم، من قبلة اعتذار، من نظرة فهم.

يا ليتنا نُدرّس أبناءنا في المدارس:

كيف يكون القلب واسعًا، لا يتورّم بالحقد،

كيف تكون الكلمة بلسمًا لا خنجرًا،

كيف نُحبّ الناس كما نحبّ المرايا النظيفة، التي تعكسنا دون تزوير.

ففي النهاية…

ليس الجمال أن تكون ملامحك مرسومة بدقة،

بل أن لا تُسبّب جروحًا لمن يراك من الداخل.

فابحث عن طبيب نفس، لا طبيب جلد.

عن ابتسامة صادقة، لا بياض أسنان.

عن رائحة روح، لا عطرٍ باهظ الثمن.

لعلّك، حين تُجرِي تلك العمليات الروحية،

تصير جميلًا حقًا…

جميلًا بما يكفي لأن يُقال عنك:

“مرَّ من هنا، ولم يُؤذِ أحدًا.”

Filled Under: General, Thoughts

الذي لا يهدأ إلا في العاصفة

أعرفه… ذاك الإنسان الذي لا يسكنه السلام، فيعيش كأنّ قلبه ميدان معركةٍ لا تهدأ. إنسانٌ يتنفس الخصومة كما يتنفس الناس الحبّ، ويستلذّ التربص كما يستلذ العاشق الانتظار على عتبة بابٍ لن يُفتح

هو لا ينام إلا على وسادةٍ من ظنون، ولا يصحو إلا على فجيعةٍ جديدة يصنعها من لا شيء، وكأنّ فراغ الحياة حوله جريمةٌ يجب أن يُعاقب الكون عليها. يُراكم خلافاته كما يُراكم البعض الكتب، لا ليقرأها، بل ليُشعر نفسه أنّه حيّ، أنّه مهمّ، أنّ له صخبًا في عالمٍ لا ينصت

هو دون كيشوت عصرٍ لا طواحين فيه. يخوض معاركه بحدةٍ باردة، ويزرع حوله أعداءً لا يعرفون حتى بوجوده. يحترف صناعة العداء كما تحترف العاشقات خياطة الحنين في أطراف منديل، ثم تبكي عليه سرًّا. لكنّه لا يبكي. ما عرف الدمع يومًا. بل يُخفي وجعه خلف صوتٍ عالٍ، وابتسامةٍ ساخرة، وكلماتٍ مسنونةٍ كنصل خنجرٍ مغروسٍ في خاصرة الصفاء

أشقى من أن يُحب، وأجهل من أن يُسامح. لأنّه اعتاد أن يقيس وزنه بمدى انشغال الناس به، ولو بالكره. يظنّ أن الأضواء لا تُسلّط إلا على من يُجيد الصراخ، ويؤمن أن العظمة تُستعار من سُقوط الآخرين

لكنّه، يا ويح قلبه، لا يدري أنّه لا يُقاتل إلا خوفه من العدم… من أن يمرّ في الحياة مرور النسمة دون أثر. من أن يكون هامشًا في كتاب الحياة، لا أحد يذكره، لا أحد يفتقده. فخلق حوله جدرانًا من العداوات، ونوافذ من الشك، وأبوابًا لا تُفتح إلا على خيبة

هو لا يكره الناس، بقدر ما يكره صمته. يخاف سكونه. يُرعبه أن يجلس وحده دون ضجيج، لأنّه إن فعل، سيسمع صوت خوائه يتردّد بين أضلاعه. فيُعيد إشعال معاركه، فقط ليهرب من صوته

كم من أعداء نسجهم من خيوط وهمٍ وخيال، ووشّاهم بقصصٍ لم تقع، ثم صدّق كذبته حتى بات ضحيّتها! يرتدي دروعًا لا ضرورة لها، ويشهر سيوفًا صدئةً في وجه أرواحٍ لم تنوِ أذيّته

وأعجبُ ما فيه أنّه لا يرى ذاته إلا في مرآة العداوة، ولا يسمع اسمه إلا في صدى شتيمة، ولا يطمئن إلا حين يشعل فتيل خصومةٍ جديدة، كمن يوقظ الوحش ليتأكد أنّه ما زال يملك القوّة

لكن، كم هو هشٌّ هذا الجبروت!كم هو هشٌّ قلبٌ لا ينبض إلا بالخوف، ولا يعيش إلا في مرايا الآخرين!كم هو صغيرٌ من لا يكبر إلا بتقزيم سواه، ولا يتنفس إلا إذا خنق الهواء من حوله

هو ضحيةُ وهمٍ صنعه بيده… يقاتل ظلالًا ويعود خالي الوفاض. يربح الحكاية ويخسر نفسه، ثم يضحك عاليًا، كما لو أنّ الصراخ يُخفي انكسار الروح

وفي النهاية، حين يُسدل الليل ستاره، ويغفو الجميع في هدوء، يبقى وحده مستيقظًا، يجمع فتات معاركه الخاسرة، ويضمها إلى صدره كأنّها انتصارات

يهمس لنفسه: «أنا موجود… أنا رأوني… أنا هُنا».ولا يدري أنّ أحدًا لم يرَه فعلًا، لأنّ من يصنع وجوده من نفي الآخرين، لا يُرى… بل يُخشى، ثم يُنسى

في حياة كلّ امرأة لحظة تستيقظ فيها من سُباتها العاطفي، لا لأنّها أرادت ذلك، بل لأنّ أحدهم، يوماً، نظر في عينيها بكلّ برود العالم، وقال لها، دون أن يقول شيئًا: “أنتِ لستِ ما أبحث عنه

في تلك اللحظة، يتوقّف الزمن

يتجمّد الحُلم عند ضفّة الحقيقة، وتُطفأ الأغاني، وتُخرس العصافير. تتبدّل الألوان، وتفقد الذاكرة قدرتها على الانتقاء، فتتذكّر كلّ التفاصيل الصغيرة التي تودّ نسيانها، وتنسى اللحظات الجميلة التي كانت تبني بها الوهم

كنتِ في أفضل حالاتكِ يومها

في أقصى نضوجكِ، في أنقى حضورك، بعينيكِ المُضيئتين بأمل الحب، بصبركِ، بتفانيكِ، بضحكتك التي كنتِ تظنين أنّها وحدها قادرة على إنقاذ هذا العالم منه. كنتِ الحبيبة التي تحفظه عن ظهر قلب، التي تقرأه في صمت، وتترجمه إذا لزم الأمر، إلى قصيدة لا يفهمها سواكِ

لكنّكِ، ببساطة، لم تكوني كافية

ليس لأنكِ ناقصة، بل لأنّه أعمى القلب، لا يرى. لأنّه أضاع بوصلته العاطفية، فصار يطلب الورد في حقول الحصى، ويرجو الدفء من جليد العابرين

تعلمين، يا امرأة، أنّكِ في الحب لستِ ميزانًا يُوزن به الصواب والخطأ، ولا معيارًا يُقاس به الكمال. الحب ليس امتحانًا تجتازينه بدرجة “كافية”. الحب أن تجد من يراكِ في انكسارك بهجة، في حزنك عزاء، في ضعفك قوّة. من يراكِ حين تنهارين، وتظنين أن العالم قد انكسر بكِ، ويقول: “تعالي، أنا الوطن

ذلك هو الشخص المناسب. ذلك الذي يراكِ في أسوأ حالاتكِ، وبدلاً من أن يتراجع خطوة، يتقدّم بخطوتين. يمسك بيدكِ، لا ليسندكِ فقط، بل ليكمل بكِ ما تبقّى من الطريق. لا يخشى دموعكِ، بل يخبّئها بين أصابعه، ويعدكِ بأن يجعلها مطرًا يُزهر قلبكِ من جديد.

كم مرّة، في ليالٍ متأخرة، تساءلتِ: ماذا لو لم أكن كافية؟

لكن الحقيقة يا حبيبتي ليست في “كفايتك”، بل في “اختياره”. أنتِ لم تكوني النقص، بل كنتِ الزيادة التي لم يعرف كيف يحتملها. كنتِ زهرًا في غير موسمه، وماءً في صحراء لا تعرف معنى الحياة

وليس ذنب الزهر أن لا يُقدّر العابرون عطره، ولا خطيئة الماء أن لا يروي من لا يعرف كيف يشرب

الحب، يا صديقتي، لا يحتاج إلى اجتهاد حتى تكسبي قلبًا لا يعرف كيف يحب. لا ترهقي قلبكِ في إقناع من لم يُخلق ليبصركِ. فالشخص الخطأ، لن تفيه كلّ القصائد. والشخص المناسب، تكفيه نظرة صامتة، فيراني ويكفيني

ثقي أنّكِ في رداءكِ البسيط، في شعركِ المتعب، في صمتكِ المبلّل بالخذلان، أبهى مما كنتِ في أفضل حالاتكِ معه

فلا تبحثي عن ذاتكِ في مرايا الآخرين. المرايا كثيرة، لكنّ الحقيقة واحدة

أنتِ كافية، بل أكثر. فقط لمن يستحق

Filled Under: General, Thoughts

“الرصيد الذي لا يُرى”

في بدايات الحب
لا أحد يخبرنا أن العلاقات تشبه دفاتر البنوك القديمة، تلك التي كانت تُسجّل فيها الديون بالقلم، لكن تُسدد بالدموع.لا أحد يُخبرنا أن القلب له رصيد، لا يُحسب بما نأخذ فقط، بل بما نمنح، وبما نصمت عنه حينًا، وبما نختار أن نغفره مرةً بعد مرة… إلى أن لا يبقى فينا متّسعٌ للغفران

الرصيد ليس كذبة، بل هو تلك المساحة الخفية التي نُخزّن فيها الخذلان، نرتّب فيه الخيبات كما نرتّب ملابس الشتاء في موسم لا يأتي

الرصيد، يا من أحببتك، لا يُبنى بكلمة “أحبك”، بل يُبنى عندما تقولها ويدي على قلبي لا ترتجف من شكّ، ولا تنقبض من خوف
يُبنى حين لا تتركني أُصارع حزني وحدي، بينما تتظاهر أنك تراقبني من بعيد “لتُربّيني”… كأن الحبّ مدرسة وأنت أستاذ صارم

يعاقب طلابه على التعبير

الرصيد يتآكل
حين تُصبحَ العتابات موسيقى مكرّرة لا تُؤثّرك، بل تُمِلّك

حين أقول لك “أنا تعبت”، فتردّ بهدوء من لم يسمع، ومن لم ينوِ يومًا أن يُغيّر شيئًا في أسلوبه

الرصيد يتبخّر
حين تتركني في المنتصف، لا أمسك يدك، ولا أستطيع الرجوع
حين تتقلّب مزاجاتك كطقس المدن الساحلية، لا أعلم أألبس قلبي معطفًا ثقيلًا أم أتركه عاريًا للشمس التي لا تأتي؟
حين تتصرّف كأنك وحدك في العلاقة، وأنا مُجبرة على فهمك، وتأويلك، والصبر عليك، وكأنك نيزك عابر يستحق أن تنتظره الأرض مرة كل ألف عام

الرصيد، يا أنت
ينتهي حين لا تعود تسأل: “هل أنت بخير؟”
حين تتغيّر ملامحك، ولهجتك، وطريقتك، وتظن أنني لا ألحظ
لكني ألحظ، وأصمت، لأن من يحبّ يتغافل، ويتجمّل، ويتجاهل
إلى أن يأتي يوم، لا يعود فيه التغافل حُبًا، بل غباء

الرصيد ينفد
حين لا يكون لغيابك سبب، ولا لبرودك مبرر، ولا لصمتك تفسير
حين تفتح يدك على الحبّ وتغلقها على الخوف
حين تقول لي: “أنتِ الوحيدة في قلبي”… لكن تصرّفاتك تؤكّد أنني مجرد خيار، لا أكثر

الرصيد لا تستهلكه الكوارث، بل التفاصيل الصغيرة
نظرة باردة في لحظة انتظار
كلمة قاسية في وقت انكسار
غياب مفاجئ في منتصف الحاجة
إلحاح على الكذب رغم وضوح الحقيقة

أنا لا أطلب معجزات
فقط أن يكون لوجودي وزن، ولوجعي قيمة، ولصمتي سببٌ مفهوم
لا أطلب أن تُحسن إليّ كل يوم، فقط ألا تُسيء
ألا تستبدل حضوري بالاعتياد، ولا تحوّل محبتي إلى ملحق في قائمة أولوياتك

هل تعلم؟
الحبّ العظيم لا يُبنى على الجُمل المنمقة، بل على ردود الأفعال عند الغضب، على حرصك ألّا تتركني معلّقة بين ما كان وما سيكون
على خوفك من أن تفقدني، لا على افتراضك أنني لن أرحل

فأنا لا أُغادر في لحظة جنون، بل في لحظة وعي
حين أدرك أنني كنت أُحبك أكثر مما تُحبّك أنت
وأنني كنتُ أسامحك عن أشياء لو فعلتها بي الحياة، لَكنتُ انتقمت

حينها، لا تنادي الحبّ القديم كأنّه ضالّ
ولا تسأل: “أين ذهبتِ؟
فالرصيد… لا يُعاد شحنه حين ينفد
بل يُدفن مع كل محاولاتي في إنقاذك من نفسك

Filled Under: General, Thoughts

لأنكِ لستِ كالجميع…

اختاري من يشعر بكِ قبل أن تنطقي، من يقرأ حزنكِ في صمتكِ، ويفهم ارتباككِ في كلماتكِ. من لا ينتظر أن توضحي له ما بكِ، لأنّه يعرف، لأنّه يشعر بكِ وكأنّ قلبكِ صفحة مفتوحة يقرأها دون أن تطلبي منه ذلك

اختاري من لا يلومكِ حين تحتاجين للوقت بمفردكِ، حين تطلبين منه أن يترككِ حتى تهدئي، فلا ينصرف غاضبًا، بل يقول لكِ بحنان: “أنا هنا حين تحتاجينني، لن أذهب بعيدًا.” وليس من يسألكِ ببرود: “وما نفع وجودي في حياتكِ إذًا؟” لأنّ الحبّ ليس قيدًا، ولا اختبارًا لمدى قدرتكِ على التحمل

اختاري من لا يجعلكِ تخجلين من حزنكِ، من لا يراكِ عبئًا حين يثقل الهمّ روحكِ، بل يقول لكِ بكل ثقة: “أنا أحتملُكِ، بل وأكثر من ذلك، أنا أريدكِ كما أنتِ، بكلّ حالاتكِ.” فلا يتضايق من مزاجكِ، ولا يتأفف من ضيقكِ، ولا يبتعد عندما يحتاج قلبكِ إلى من يحتضنه ولو بكلمة

اختاري من لا يطلب منكِ أسبابًا لكلّ شيء، حين تقولين: “لا أعلم ما بي، فقط أشعر بثقلٍ في قلبي…” فلا يُلقي عليكِ محاضرات في المنطق، ولا يُشعركِ بأنكِ متطلبة، بل يقول لكِ بكل بساطة: “تحدثي، قولي كلّ ما في داخلكِ، حتى لو كنتِ غاضبةً مني، حتى لو كنتِ لا تجدين تفسيرًا، المهم أن ترتاحي

اختاري من يحوّل دموعكِ إلى ضحكة، من يخفّف عنكِ بثقته لا بمجرد كلمات، من يعرف متى يربّت على كتفكِ بصمت، ومتى يمزح ليجعلكِ تضحكين رغمًا عن حزنكِ. من يفهمكِ دون أن تحتاجي لأن تشرحي، ويحتويكِ دون أن تطلبي منه ذلك

اختاري من يكون مشغولًا، من لديه مسؤوليات وأعباء، لكنه حين يسمع صوتكِ المضطرب يضع كل شيء جانبًا، ويقول لكِ: “أنا هنا، لا شيء أهمّ منكِ، تحدّثي وسأكون مستمعًا لكِ بكلّ ما فيَّ من اهتمام.” لأنّ الحبّ الحقيقيّ لا يُقاس بالوقت الفارغ، بل بالوقت الذي يُخلق رغم الانشغال

اختاري من يمنحكِ الأمان دون أن تطلبيه، من يكون بجانبكِ دون أن تضطري إلى البحث عنه، من لا تحتاجين معه إلى التصنّع أو الادّعاء بأنكِ بخير، لأنّه يرى ما لا يراه الآخرون، ويشعر بما تحاولين إخفاءه

اختاري من لا يكتمل يومه دونكِ، من لا يستطيع أن ينام قبل أن يطمئن أنّكِ بخير، من لا يرى فيكِ خيارًا مؤقتًا بل استثناءً دائمًا

اختاري من يختاركِ كلّ يوم، رغم كلّ الظروف، رغم كلّ المسافات، دون قيدٍ أو شرط، دون ترددٍ أو تراجع. اختاري من يُشعركِ أنكِ الدنيا، وأنّ العالم دونكِ ناقصٌ، وأنّكِ مهما تعبتِ أو أخطأتِ، ستبقين الأجمل، لأنكِ لستِ كالجميع… وهو يعلم ذلك

الذين يدركون كثيرًا، يحزنون كثيرًا

كلما اتسعت عيناك على العالم، ضاقت بك الحياة. كأن الإدراك لعنة يتوارثها الحالمون الذين لم يتعلموا فن التغافل، ولم ينجحوا في خداع قلوبهم كما يفعل السعداء. أنت لا تحتاج إلى دليل على أن الوعي وجع، كل ما عليك هو أن تنظر إلى روحك في المرآة… هل رأيت هذه التجاعيد الصغيرة على جدران قلبك؟ هذه ندوب الإدراك

الحياة لا تكافئ الذين يفهمونها، بل تمضي بهم كريح عاتية، تُحملهم إلى حيث لا يريدون، ثم تتركهم هناك، غرباء حتى عن أنفسهم. أولئك الذين يملكون وعياً زائداً يشبهون المسافرين بلا وجهة، يحملون حقائب ممتلئة بالأسئلة، يفتحونها في كل محطة، فلا يجدون سوى الفراغ

الحب؟ حتى الحب عندهم لا يشبه حب الآخرين. لا يقع فيهم كقدر جميل، بل كألم ناعم يتسلل بين ضلوعهم، يسكنهم ولا يسكنونه. يحبون بحدة، كأنهم يريدون امتصاص الحياة من العيون، من اللمسات، من الكلمات التي تُقال بلا انتباه. ثم، عندما لا يجدون في الحب ملاذًا من الوعي، يغادرون بصمت، لأنهم يعلمون أن العالم لا يحتمل من يضع قلبه في كل شيء

إنهم الذين يبتسمون وفي أعماقهم خريف، الذين يعبرون الشوارع وكأنهم يمشون فوق خيط رفيع بين الحلم والحقيقة. يسهرون لأن النوم خيانة، لأن الليل هو اللحظة الوحيدة التي لا يحتاجون فيها إلى التظاهر بأنهم بخير

ولكن، أليس من الأجمل لو كانوا أقل وعياً؟ لو استطاعوا أن يعيشوا كالأشجار، تنحني للريح ولا تفكر في فلسفة العاصفة؟ لو كانوا كالأطفال، يبكون لأن لعبتهم ضاعت، لا لأنهم فقدوا جزءًا من أنفسهم وهم يبحثون عن معنى الأشياء؟

أقسم لكم، لو كان الجهل وطنًا، لكنتُ أول من يطلب اللجوء. لكن المشكلة ليست في أنني أُدرك، بل في أنني لا أستطيع التوقف عن الإدراك. أفهم أكثر مما يجب، وأشعر أكثر مما ينبغي، وأحب أكثر مما يحتمل القلب

وهذا… يا صديقي، أقسى ما يمكن أن يكون

Filled Under: General, Thoughts

بعد الكذبة الأولى، كل الحقيقة شك

في البدء، كنا نؤمن أن العالم نقي، أن الكلمات تعني ما تقوله، أن الوعود لها وزن، وأن الحب يكفي ليحمي القلوب من الانكسار. كنا نعيش بقلوب مفتوحة، نمدّ أيدينا للسماء بثقة طفل يؤمن أن المطر سيأتي حين يحتاجه، وأن الشمس لن تخونه أبدًا بالغياب

لكننا كبرنا، وشيء ما تغيّر

اكتشفنا أن الحقيقة ليست صلبة كما ظننا، أنها هشة، قابلة للالتواء والتشويه، وأنها أحيانًا ليست سوى وجه آخر للخداع. الكذبة الأولى تأتي كطيف خفيف، تمرّ بنا دون أن تترك أثرًا في البداية. ربما كانت كلمة لم تقال بصدق، وعدًا لم يُنفذ، حبًا لم يكن كما بدا. نبتلعها بحسن نية، نغضّ الطرف، نقنع أنفسنا أن العالم لا يزال كما عرفناه

لكن المشكلة أن الكذبة الأولى ليست وحدها، إنها بذرة لحديقة من الشكوك. بعد أن تتفتح تلك البذرة، يبدأ كل شيء بالتبدل. نصبح أكثر حذرًا، نصغي للضحكات ونبحث في طياتها عن زيف، ننظر في العيون بعمق أكثر مما يجب، نحاول أن نستخرج منها ما تخفيه. يصبح الصدق نفسه متهمًا، وتتحول الكلمات الصافية إلى شفرات نحتاج إلى فكّ رموزها

هكذا تفقد الأشياء نقاءها

تبدأ علاقتنا بالعالم تتغير، لم نعد نصدق الأخبار كما كنا، لم نعد نؤمن بالوعود التي تُقال بسهولة، لم نعد نرى في الكلمات معنى مطلقًا. نصبح شهودًا على الانهيارات الصغيرة، تلك اللحظات التي يتكسر فيها شيء داخلنا دون أن نتمكن من إصلاحه. نكتشف أن العلاقات لا تموت بالصراخ، بل بالصمت الذي يتسلل بين المحبين كضيف غير مرغوب فيه. أن الثقة لا تُسرق دفعة واحدة، بل تتساقط كأوراق شجرة في خريف طويل

الحياة كلها تصبح مرآة مزدوجة، نرى فيها نصف الحقيقة، والنصف الآخر نخشى أن ننظر إليه. نتساءل: هل كان العالم دائمًا هكذا، أم أننا نحن من بدأنا نراه بوضوح موجع؟ هل الكذبة الأولى كانت لحظة ولادة وعينا، أم أنها كانت لحظة موت براءتنا؟

كل ما نعرفه أن العودة لم تعد ممكنة. فلا شيء يعود كما كان بعد أن نفتح أعيننا على الحقيقة، بعد أن نكتشف أن الثقة، حين تنكسر، لا تعود أبدًا كما كانت. يصبح كل وعد مُعلقًا بين الصدق والوهم، وكل حبٍ مشوبًا بشبح الخيانة، وكل يقينٍ محاطًا بأسوار من الشك

وهكذا، نظل نبحث عن الحقيقة، نحاول أن نمسك بها في عالم تعلّم كيف يجمّل الكذب، كيف يقدّمه على هيئة حلم، كيف يجعله يبدو كأنه واقع لا يقبل التشكيك. لكننا، نحن الذين عرفنا طعم الكذبة الأولى، لن نعود كما كنّا أبدًا

لأننا ببساطة، لم نعد نعرف كيف نصد

Filled Under: General, Thoughts

كسب معركة، خسارة الحرب

نحن لا نحيا، بل نؤدي أدوارنا في مسرح الحياة، نمضي أيامنا على خشبة الأيام كأننا مقاتلون في معركة لا نعرف متى بدأت ولا كيف ستنتهي. سبعة أيام في الأسبوع، أربع عشرة ساعة في اليوم، ونحن نخوض حربًا مع أنفسنا، مع الآخرين، مع الأقدار التي تختبر صبرنا. نظن أننا نتحكم في مصائرنا، لكننا في الحقيقة نسير وفق سيناريو لم نكتبه، ونكرر مشاهد لم نخترها. نعيش في ظلال أحلامنا القديمة، نتشبث بانتصارات صغيرة، ونخوض معارك أكبر مما تحتمله قلوبنا

رقم واحد—دائمًا احسب النقاط. لأننا كُتب علينا أن نعيش في عالم يحصي انتصاراتنا وهزائمنا كما لو أننا نُولد بميزان دقيق يزن لحظات الفرح والحزن. احسب اللحظات التي انتصرت فيها على يأسك، التي سقطت فيها ولكنك نهضت رغم كل شيء. احسب الليالي التي بكيت فيها وحيدًا ولم يسمعك أحد، لكنك استيقظت في الصباح وأكملت المسير

رقم اثنين—افعل كل ما بوسعك لتتفوق على العدو، لكن ماذا لو كان العدو هو أنت؟ ماذا لو كنت أنت من يضع العراقيل أمامك؟ أنت من يُفشل نفسه بنفسه خوفًا من النجاح؟ ماذا لو كانت الحرب الحقيقية تدور داخلك، بين رغبتك في الحياة وخوفك منها؟

رقم ثلاثة—لا تصادق الخصم. لكن ماذا لو كان الخصم هو الشخص الذي تحبه؟ ماذا لو وجدت نفسك في معركة مع القلب والعقل، مع الحنين والنسيان، مع الذكريات التي تأبى أن تذهب؟

رقم أربعة—كل شيء… كل شيء هو منافسة. ننافس في الحب، في النجاح، في الحزن حتى. نريد أن نكون الأكثر حبًا، الأكثر ألمًا، الأكثر إخلاصًا، الأكثر ظلمًا. نظن أن الحياة سباق، لكننا لا ندري أننا في الحقيقة نركض نحو هاوية لا نهاية لها. نربح المعارك الصغيرة، لكننا نخسر أنفسنا في الطريق

ولكن لا أحد يخبرك بالحقيقة، الحقيقة التي لا يكتشفها الإنسان إلا بعد أن يخسر الكثير. هناك قاعدة خامسة لا يتحدث عنها أحد—الأمر لا يتعلق بالسباق على الإطلاق. لا يوجد خط نهاية، لا توجد جوائز، لا يوجد فائزون. نحن جميعًا مجرد مسافرين نحمل فوق أكتافنا أمتعة أثقل من أرواحنا. نسير في طرق لم نخترها، ونبحث عن نهايات سعيدة في قصص ليست لنا

الانتصارات الحقيقية لا تُقاس بعدد المعارك التي خضناها، ولا بعدد المرات التي تفوقنا فيها على غيرنا. الانتصارات تُقاس بالقلوب التي أحببناها دون خوف، بالأرواح التي ضمدنا جراحها دون مقابل، باللحظات التي اخترنا فيها السلام بدلاً من الحرب. لأن الحياة ليست ساحة معركة، بل رحلة. والذكي ليس من يربح المعارك، بل من يعرف متى يترك سلاحه جانبًا، متى يتوقف عن القتال، متى يرفع راية السلام ويختار أن ينقذ نفسه من حرب لا نهاية لها

Filled Under: General, Thoughts

The Echo of Impulse

At any given moment, the brain is a battlefield of electricity—14 billion neurons colliding, sparking, surging at 450 miles per hour. A quiet war waged beneath the surface of skin and bone, sending orders we never consciously sign off on. The flutter of a pulse when a name lingers too long in the air. The chill down the spine when something forgotten brushes against the edge of memory. The bloom of goosebumps at the whisper of a touch, a look, a thought too dangerous to say aloud.

The body follows its instincts without apology. It reacts before we do. Before reason can step in, before logic can pull the emergency brake. A shiver of anticipation. A stomach dropping like a stone in water. Adrenaline pulsing, pushing, pulling. We tell ourselves we are creatures of discipline, of control. But aren’t we, in the end, just bodies responding to invisible forces, hearts set on fire by things we wish we could ignore?

Sometimes, we surrender. Sometimes, we don’t even realize we’ve lost the fight until we’re standing in the wreckage, trying to piece together where the line blurred between decision and inevitability. Between want and need. Between choice and impulse. We step toward things that feel like gravity, like destiny, like something written long before we arrived. And in the moment, it’s easy to believe that no other outcome was ever possible.

But the weight of impulse doesn’t consider consequence. It doesn’t care for morning-after thoughts or hearts held together by fragile seams. It is the storm that does not apologize for the mess it leaves behind. The wildfire that doesn’t think about what it burns. And in its aftermath, we are left standing in the quiet, in the stillness, realizing that control isn’t in the moment before the fall—it’s in what comes after.

The body is a slave to its impulses, but the soul—oh, the soul is something else entirely. The soul is what remains when the heat dies down. It is the hands that clean up the glass from a shattered moment. It is the breath that slows when regret threatens to suffocate. It is the thing that chooses, despite everything, to try again. To stand tall. To stretch toward the sun even after being stripped bare by the winter of bad decisions. To believe that maybe, just maybe, it’s possible to bloom again.

And then again…

Filled Under: General, Thoughts

حين تهمس الأقدار بحكاياتها

كلنا نحلم بحياة تشبه الشِّعر، حياة تنبض بالمفاجآت، بالمواعيد القدرية التي تأخذنا إلى حيث لم نتخيل. لا أحد منا يكبر وهو يطلب من الأقدار حياة عادية، لا أحد يرفع عينيه نحو السماء متمنيًا أن يكون مجرد ظل باهت في قصة الحياة. نؤمن، حدّ اليقين، بأن لنا نصيبًا من العظمة، بأن الكون خبأ لنا دروبًا مرصوفة بالدهشة، وبأن الأيام ستحمل إلينا لحظات تُسرق لها الأنفاس

نرسم في خيالنا طرقًا واضحة، نخطو بثقة نحو الأحلام التي نقشناها في قلوبنا. نتخيل أن الوصول هو المسألة الوحيدة، أن النهايات السعيدة محضُ انتظار. نقنع أنفسنا أن الحياة ستمنحنا ما نستحقه لأننا آمنا به

نحلم بمدن تحتضننا، بحب لا يتلاشى، بفرحٍ لا يخذل. نتخيل الضحكات التي ستملأ أيامنا، الأصدقاء الذين لن يرحلوا، النجاح الذي لن يتعثر، الحب الذي لن يبهت، والسعادة التي لن تكون يومًا على قائمة الانتظار

ثم نصل

لكن الطريق لا يكون كما تخيلناه

ندرك أن الأحلام قد تذوب بين أصابع الواقع، وأن التوقعات الكبيرة قد تتحطم عند أعتاب الأيام العادية. الوظيفة التي حلمنا بها تصبح روتينًا مرهقًا، الحب الذي ظنناه ملاذًا يتحول إلى صراع بين البقاء والخذلان، واللحظات التي انتظرناها طويلاً تمر دون أن تشعر بنا. فجأة، تبدو الحياة كأنها نسخة باهتة من الحكايات التي وعدنا أنفسنا بها

نشعر وكأننا خُدعنا، وكأن الحياة التي سعينا خلفها ليست سوى سراب. كأننا أضعنا العمر في الجري خلف ظل لحلم لم يكن يومًا لنا

لكن، ماذا لو كنا نطمح لما هو أقل من الحياة ذاتها؟

ماذا لو أن الأحلام التي رسمناها لم تكن سوى نقطة البداية، وأن الأقدار كانت تدخر لنا شيئًا أجمل، شيئًا لم يخطر لنا يومًا أن نتمناه؟

لأن الحياة، بحكمتها العتيقة، لا تعطينا ما نطلبه، بل تمنحنا ما نحتاجه لننمو، لنكبر، لنصبح النسخة الأكثر صدقًا من أنفسنا

نحن نخاف التغيير، نخشى أن نخطئ الطريق، نخشى أن نضيع في متاهة الاحتمالات، لكن ماذا لو كان الجمال كله في الأشياء التي لم نخطط لها؟ في اللقاءات التي لم نرتب لها، في الطرق التي قادتنا إلى أماكن لم نعرف أننا نحبها، في الحكايات التي لم نكتبها بأيدينا لكنها كتبتنا كما يجب؟

ألا تذكر اللحظات التي غيرتك؟ التي جعلتك أقرب إلى ذاتك؟ ألم تكن تلك اللحظات التي لم ترها قادمة؟ القطار الذي فاتك فأخذك إلى تجربة أخرى، الخطأ الذي قادك إلى مصير أجمل، العثرة التي أصبحت بابًا لمعجزة لم تطلبها؟

ربما آن لنا أن نكفّ عن رسم حكاياتنا بقلم جاف، أن نترك للمفاجآت حق الحضور، أن نتوقف عن ملاحقة اليقين، وأن نرقص مع الاحتمالات. ربما كان الكون يهمس لنا طوال الوقت: “اتركوا مساحة للدهشة، فالأشياء الجميلة لا تطرق الأبواب، بل تقتحم حياتنا حين لا نكون مستعدين لها

لأن المتوقع يجعلنا جامدين، مقيدين بحبال الأمان. لكنه لا يصنع الحياة، لا يصنع الشغف

الحياة الحقيقية تبدأ حين نسمح لها بأن تفاجئنا

حين نؤمن بأن الأقدار تعرف أكثر منا

حين نتوقف عن الركض خلف ما أردناه، لنحتضن ما كتبه لنا القدر

فهناك، في غير المتوقع، تبدأ الحكايات الأجمل

Filled Under: General, Thoughts