امرأة كالحلم
امرأة مثلي لا تضيع… لا تلتفت خلفها لتعدّ الخسارات، ولا تسأل الريح عن وجهتها. هي التي علّمت قلبها أن يكون وطنًا لنفسه، لا يبحث عن مأوى في أحد، ولا ينتظر يدًا تمتدّ لتنتشله من عتمة الحيرة. دائمًا ما كانت تملك خريطة سرية للنجاة، ممهورةً بأختام التجارب، مرسومةً على وجع لم يفهمه أحد، لكنها تحفظها عن ظهر قلب، تعرف كيف تسلك الدروب الصعبة دون أن تفقد شيئًا من كبريائها، وكيف تعبر الحكايات دون أن تثقل روحها بالندم
تمضي كما لو أنها لا تنتمي إلى هذا العالم، تحمل حقيبة من الأحلام المؤجلة، وذاكرة تعرف جيدًا كيف تختار ما يبقى منها وما يُنسى. امرأة مثلي لا تُعرّف نفسها بما خسرت، بل بما تجاوزت. لا تعلق في منتصف الحكايات، إما أن تعيشها بكل شغفها، أو تطويها كما تُطوى الرسائل التي لم تصل، تمزّقها دون تردد، وتمضي دون أن تنتظر اعتذارًا أو تفسيرًا. تأتي على مهل، كأنها تمنحك فرصة لاستيعاب وجودها، تمنحك الوقت الكافي لتعتاد على أنفاسها، على طريقتها في اقتحام الفصول دون استئذان، ولكن حين تغادر، تفعل ذلك كالعصافير المهاجرة… بلا وداع، بلا أثر، سوى فراغٍ مربك يملأ المكان الذي كانت تشغله بكل حضورها الطاغي
تعرف متى ترحل، وكيف تترك خلفها فقط ذلك السؤال الذي لا إجابة له: كيف يمكن لشخص أن يكون بهذا القرب، ثم يختفي كأن شيئًا لم يكن؟ كيف يمكن لحضور أن يكون بهذا الثقل، ولغياب أن يكون بهذه الخفة؟ لكنها تعرف، تعرف جيدًا أنّ الأجوبة لا تهم، وأنّ الرحيل فنّ لا يتقنه إلا من أدرك أن البقاء في غير موضعه جريمة بحق الروح
امرأة مثلي لا تمنح فرصة ثانية لمن أضاعها في الأولى، ولا تبقى حيث لا تنتمي، حيث تُختزل في ظلّ، أو في خيار مؤجل. لا تتوسل البقاء في قصصٍ ليست لها، ولا تقف على عتبات الأبواب التي أُغلقت في وجهها يومًا. تأخذ من الأيام ما تستحق، لا أكثر، وتمضي كما جاءت: خفيفة كنسمة عابرة، قوية كعاصفة تُعيد ترتيب الفصول. تترك خلفها القلوب التي لم تُحسن احتواءها، وتكمل الطريق كأنها لم تكن يومًا جزءًا من ذاكرة أحد
وحدهم الذين لم يفهموها يقضون أعمارهم في محاولة فكّ لغزها، يتساءلون كيف كانت بهذا القرب، ثم أصبحت فجأة أبعد من أن تُلمَس، بينما هي… كانت قد نسيت حتى ملامح الطريق الذي عبرته، ولم تترك خلفها سوى صدى خُطى تمحوها الأيام