عيد الأوفياء

ما أكثر العشاق في هذا العالم، وما أقل الأوفياء! العشاق يملأون الطرقات، يتناثرون كأزهار الربيع، يهمسون بوعودٍ جميلة، يعقدون العهود فوق شرفات الغروب، ثم يذوب كثيرٌ منهم مع أول ريحٍ باردة، مع أول اختبارٍ للحب، مع أول خلافٍ يُشعل المسافات بينهم. أما الأوفياء، فهم نادرون كحبات المطر في صيفٍ قاحل، كقمرٍ لا يفقد ضوءه مهما أرهقته العتمة، كبحرٍ لا يخذل شواطئه مهما ابتعدت عنه السفن

نحن لا نحتاج إلى عيدٍ للعشاق، فالعشق كثير، لكنه هشٌّ كزجاج النوافذ في مواجهة الريح. نحن نحتاج إلى عيدٍ لأولئك الذين ظلّوا رغم كل شيء، الذين لم يغيّرهم الوقت، ولم تُطفئهم المسافات، ولم تهزمهم الأيام. نحتاج عيدًا لأولئك الذين آمنوا أن الحب ليس لحظة نشوةٍ تنطفئ، بل جذورٌ تضرب في الأرض وتمتد، مهما حاولت الرياح اقتلاعها

في زمنٍ باتت فيه المشاعر مُعلّبة، والعلاقات تُباع بأرخص الأثمان، والوعود تُقال على عجلٍ ثم تتناثر مع الريح، نحتاج عيدًا يُحتفى فيه بمن حملوا قلوبهم كالأمانات، بمن لم يتغيروا رغم تغيّر الأيام، بمن لم يجعلوا الحب صفحةً تُطوى في نهاية الرواية، بل جعلوه كتابًا مفتوحًا على الأبدية

أين عيدُ الذين لم يخذلونا؟ أين عيدُ من كانوا حضنًا دافئًا حين بردت الحياة، ومن كانوا عكازًا حين اشتدّت بنا العواصف، ومن ظلّت عيونهم نوافذ مضيئة في ليالي الغياب؟ أين عيدُ من لم يغلقوا الباب حين أغلقتها الدنيا في وجوهنا، ومن لم يلتفتوا إلى غيرنا رغم كثرة الإغراءات؟

الحبّ ليس مجرد نظراتٍ عابرة، وليس هدايا ملفوفة بورقٍ فاخر، ولا رسائل عذبة تنتهي بنقطة. الحبّ هو أن تكون هناك، دائمًا وأبدًا، رغم البعد، رغم المشكلات، رغم العثرات، رغم الحياة بكلّ ما فيها من جنون. الحبّ أن تبقى، ولو كان البقاء مُرهقًا، ولو كان الطريق طويلاً، ولو صار القلب مدينةً يسكنها التعب

فلا تحدّثوني عن عيدِ العشاق، بل حدّثوني عن عيدٍ للذين لم يتركوا أيدينا حين احتجنا إليهم، عن عيدٍ لمن كانوا نجمًا في سماء العمر، لا يرحلون حتى لو اختفت الشمس. حدّثوني عن عيدٍ لأولئك الذين لم يخذلوا، ولم يخونوا، ولم يتغيّروا، وبقوا كما هم، رغم كل شيء

تعلّموا الوفاء أولًا، ثم اصنعوا للحب عيدًا


Leave a Reply

You can add images to your comment by clicking here.

Filled Under: General