بعد الكذبة الأولى، كل الحقيقة شك

في البدء، كنا نؤمن أن العالم نقي، أن الكلمات تعني ما تقوله، أن الوعود لها وزن، وأن الحب يكفي ليحمي القلوب من الانكسار. كنا نعيش بقلوب مفتوحة، نمدّ أيدينا للسماء بثقة طفل يؤمن أن المطر سيأتي حين يحتاجه، وأن الشمس لن تخونه أبدًا بالغياب

لكننا كبرنا، وشيء ما تغيّر

اكتشفنا أن الحقيقة ليست صلبة كما ظننا، أنها هشة، قابلة للالتواء والتشويه، وأنها أحيانًا ليست سوى وجه آخر للخداع. الكذبة الأولى تأتي كطيف خفيف، تمرّ بنا دون أن تترك أثرًا في البداية. ربما كانت كلمة لم تقال بصدق، وعدًا لم يُنفذ، حبًا لم يكن كما بدا. نبتلعها بحسن نية، نغضّ الطرف، نقنع أنفسنا أن العالم لا يزال كما عرفناه

لكن المشكلة أن الكذبة الأولى ليست وحدها، إنها بذرة لحديقة من الشكوك. بعد أن تتفتح تلك البذرة، يبدأ كل شيء بالتبدل. نصبح أكثر حذرًا، نصغي للضحكات ونبحث في طياتها عن زيف، ننظر في العيون بعمق أكثر مما يجب، نحاول أن نستخرج منها ما تخفيه. يصبح الصدق نفسه متهمًا، وتتحول الكلمات الصافية إلى شفرات نحتاج إلى فكّ رموزها

هكذا تفقد الأشياء نقاءها

تبدأ علاقتنا بالعالم تتغير، لم نعد نصدق الأخبار كما كنا، لم نعد نؤمن بالوعود التي تُقال بسهولة، لم نعد نرى في الكلمات معنى مطلقًا. نصبح شهودًا على الانهيارات الصغيرة، تلك اللحظات التي يتكسر فيها شيء داخلنا دون أن نتمكن من إصلاحه. نكتشف أن العلاقات لا تموت بالصراخ، بل بالصمت الذي يتسلل بين المحبين كضيف غير مرغوب فيه. أن الثقة لا تُسرق دفعة واحدة، بل تتساقط كأوراق شجرة في خريف طويل

الحياة كلها تصبح مرآة مزدوجة، نرى فيها نصف الحقيقة، والنصف الآخر نخشى أن ننظر إليه. نتساءل: هل كان العالم دائمًا هكذا، أم أننا نحن من بدأنا نراه بوضوح موجع؟ هل الكذبة الأولى كانت لحظة ولادة وعينا، أم أنها كانت لحظة موت براءتنا؟

كل ما نعرفه أن العودة لم تعد ممكنة. فلا شيء يعود كما كان بعد أن نفتح أعيننا على الحقيقة، بعد أن نكتشف أن الثقة، حين تنكسر، لا تعود أبدًا كما كانت. يصبح كل وعد مُعلقًا بين الصدق والوهم، وكل حبٍ مشوبًا بشبح الخيانة، وكل يقينٍ محاطًا بأسوار من الشك

وهكذا، نظل نبحث عن الحقيقة، نحاول أن نمسك بها في عالم تعلّم كيف يجمّل الكذب، كيف يقدّمه على هيئة حلم، كيف يجعله يبدو كأنه واقع لا يقبل التشكيك. لكننا، نحن الذين عرفنا طعم الكذبة الأولى، لن نعود كما كنّا أبدًا

لأننا ببساطة، لم نعد نعرف كيف نصد


Leave a Reply

You can add images to your comment by clicking here.

Filled Under: General, Thoughts