الاستقرار و الفوضى
نحن مثل العناصر، نحمل في داخلنا شحناتٍ من الفوضى، من الرغبات المشتعلة، ومن الأحلام التي تتأرجح بين الاشتعال والانطفاء. نحن الكترونات تبحث عن مدارها في أنوية الذرات، عن من يمنحها التوازن وسط عالمٍ من التفاعلات، حيث لا شيء يبقى على حاله، وحيث أدنى لمسةٍ قد تشعل احتراقًا أو تمنح خلاصًا
حتى الكلور، ذلك العنصر المتمرّد، السامّ، الذي يحرق الهواء بوجوده، حين يلتقي بالصوديوم، ذلك المشاغب المشتعل، لا يشتعلان معًا، لا يُدمّران بعضهما، بل يتحولان إلى شيءٍ وادع، إلى ملحٍ يذوب في الماء، يختفي فيه، لكنه يمنحه طعمه، روحه، سرّه الذي لا يُرى ولكن لا يمكن إنكاره. كأنّ التفاعل الصحيح لا يُغيّر ماهيّتنا، بل يكشف حقيقتنا التي لم نكن ندركها، يمنحنا سببًا للبقاء لا كمجرّد ذراتٍ تائهة، بل كجزءٍ من شيءٍ أعظم، شيءٍ لا يُكتمَل إلا بنا
حتى العناصر المتفجرة، تلك التي تشتعل عند أول لمسة، يمكن أن تهدأ، يمكن أن تستقر، يمكن أن تصبح شيئًا قابلاً للإمساك به دون خوف، إذا وجدت العنصر الذي يعرف كيف يلامسها دون أن يوقظ العاصفة في داخلها. الأمر ليس في الاحتواء فقط، بل في الفهم، في إدراك أن بعض الطاقات لا تُطفأ بالقوة، بل تُهدّأ بالطمأنينة، بأن تجد من يقرأ اضطرابها دون أن يخاف منه، من يترك لها مساحتها دون أن ينسحب، من يمسكها دون أن يحاول امتلاكها
نحن أيضًا، قد نحمل في داخلنا ما يخيف، زوايا حادّة كالشظايا، شحناتٍ زائدة تُبعد الآخرين، تردّدًا يشبه الحوافّ المكسورة في زجاج نافذةٍ أرهقها الشتاء. لكننا لا نحتاج إلى من يخاف اقترابنا، بل إلى من يلمسنا دون أن ينكسر، من يحوّل حدّتنا إلى شيءٍ ناعمٍ دون أن يُمحينا، من يُعيد ترتيب ذراتنا، ليس ليغيّرنا، بل ليمنحنا لحظة أمان، ليمنحنا ذلك الإحساس العميق بأننا، بعد كلّ هذا الضياع، وجدنا أخيرًا معادلتنا الصحيحة، تفاعلنا الذي لا يُطفئنا ولا يُشعلنا، بل يجعلنا نتوهّج بهدوء، بكامل الاكتمال. نحن كالمعادلات التي لم تكتمل، ننتظر لحظة التفاعل التي تمنحنا توازننا. هناك من يمرُّ بنا كعنصرٍ خامل، لا يغيّر فينا شيئًا، وهناك من يكون كالشرارة، يشعل في داخلنا شيئًا لم يكن يومًا قابلًا للاشتعال. لكن قلائل هم الذين يمنحوننا ذلك التفاعل العميق، الذين يجعلوننا نشعر بأننا أخيرًا في حالةٍ من الاتزان، لا ناقصين ولا فائضين عن الحاجة، بل تمامًا كما يجب أن نكون
مهما ادّعينا القوة، مهما قلنا إننا مكتفون بأنفسنا، سنبقى نبحث عن ذلك الحضور الذي يطمئن قلوبنا، عن تلك العلاقة التي تشبه تفاعل الصوديوم والكلور، حيث لا أحد يحاول تغيير الآخر، بل كلّ منهما يمنح الآخر سببًا ليصبح أكثر استقرارًا. فبعض الأرواح تأتي لا لتستهلكنا، بل لتجعلنا أكثر وضوحًا، أكثر فهمًا لأنفسنا، أكثر تصالحًا مع كلّ ما في داخلنا من تناقضات. وفي نهاية الأمر، كل شيءٍ في هذا الكون يتفاعل ليجد نقطة توازنه، ونحن، مهما ظننا أننا نعرف أنفسنا، لن نكتشف حقيقتنا إلا حين نجد من يتفاعل معنا بالشكل الصحيح، وحينها فقط… سنعرف أننا أخيرًا، مستقرون