إدمان التفاصيل لعنة
تخيل أن تقضي يومًا كاملًا، حزينًا، متكئًا على نافذة روحك، تراقب الغروب ولا ترى سوى الظلال الباهتة للأمس، فقط لأن نبرة أحدهم تغيرت حين ناداك. كلمةٌ عابرة فقدت دفئها، تحية لم تحمل تلك الرجفة التي كنتَ وحدك تفهمها، صمته الذي لم يكن صمتًا عاديًا بل انسحابًا خفيًا من شيء لم يُقال. أن تكون ممن يقرأون الفواصل أكثر مما يقرأون الجمل، ممن يسمعون الفراغ بين الكلمات أعلى من الكلمات ذاتها، فتلك لعنة لا شفاء منها، لعنة التعلق بالتفاصيل، الغرق في اللاشيء حتى يصبح كل شيء
إنها مأساة أولئك الذين لا يمرّون بالعالم كالعابرين، بل يسكنونه، يلمسونه بأرواحهم قبل أيديهم، يحيون في قلب اللحظة كأنها أبد، ولا يملكون خفة النسيان. نحن الذين لا نعيش العلاقات كقصة قصيرة عابرة، بل كأبجديات كاملة، بحروفها ووقفاتها ونقاطها المفقودة. نحن الذين نحفظ شكل شفتيه وهو يتحدث بحماسة، انحناءة كتفيه حين يتعب، التردد الطفيف في صوته قبل أن يعترف بشيء يخجل منه. كيف يجفل عندما يتفاجأ، كيف يشبك أصابعه حين يكون قلقًا، كيف تتسع عيناه عندما يرى شيئًا يحبه؟ كل تفصيلة، كل ارتعاشة، كل لحظة، تصبح خيطًا غير مرئي يربطنا بهم حتى عندما يرحلون، حتى عندما لا يعودون نفس الأشخاص الذين عرفناهم
أي قدر هذا الذي يعلقنا باللحظات الهاربة؟ أن تبقى هناك، في مكان لم يعد موجودًا، في زمان قد مضى، في ذكرى لم يعد يتذكرها سواك. أن تحمل على كتفيك الأحاديث القديمة، تقرأ الرسائل ذاتها مرارًا، تبحث عن تلك الجملة التي تغيرت فجأة ولم تفهم لماذا. أن تتحسس ثقل الفراغ الذي تركوه في نبرة صوتهم، أن تدرك أن ثمة شيئًا ينطفئ بينكما قبل أن يعترفوا هم بذلك
وهكذا، نمضي، محاصرين بالأسئلة التي لن تُجاب، بالأصوات التي لن تتكرر، بالموسيقى التي كانت في ضحكاتهم ولم نعد نسمعها. كل لمسة، كل حرف، كل مرة نادانا فيها باسمنا، كل نظرة خبأت خلفها وعدًا سريًا ثم تبخرت… كيف نكمل الحياة بعد ذلك؟ كيف نعيش في عالم لا يزال صداهم يتردد فيه، لكنه يخلو منهم؟
أن تكون مدمنًا على التفاصيل يعني أن تظل عاشقًا حتى بعد أن يذبل الحب، أن تبقى ممسكًا بأطراف الذكرى فيما هم ينسحبون منها بخفة، أن تحفظ صوتهم في قلبك كما يحفظ البحر همسات الموج حتى بعد أن يتكسر على الصخور
أن تكون مدمنًا على التفاصيل… يعني أن تحب حتى الفناء، حتى تصبح كل الأشياء البسيطة أوتارًا تُعزف في روحك دون أن تسمعها أحد، حتى تتحول الذكرى إلى وطن، والوطن إلى وهم، والوهم إلى يقين لا فكاك منه