الذي لا يهدأ إلا في العاصفة
أعرفه… ذاك الإنسان الذي لا يسكنه السلام، فيعيش كأنّ قلبه ميدان معركةٍ لا تهدأ. إنسانٌ يتنفس الخصومة كما يتنفس الناس الحبّ، ويستلذّ التربص كما يستلذ العاشق الانتظار على عتبة بابٍ لن يُفتح
هو لا ينام إلا على وسادةٍ من ظنون، ولا يصحو إلا على فجيعةٍ جديدة يصنعها من لا شيء، وكأنّ فراغ الحياة حوله جريمةٌ يجب أن يُعاقب الكون عليها. يُراكم خلافاته كما يُراكم البعض الكتب، لا ليقرأها، بل ليُشعر نفسه أنّه حيّ، أنّه مهمّ، أنّ له صخبًا في عالمٍ لا ينصت
هو دون كيشوت عصرٍ لا طواحين فيه. يخوض معاركه بحدةٍ باردة، ويزرع حوله أعداءً لا يعرفون حتى بوجوده. يحترف صناعة العداء كما تحترف العاشقات خياطة الحنين في أطراف منديل، ثم تبكي عليه سرًّا. لكنّه لا يبكي. ما عرف الدمع يومًا. بل يُخفي وجعه خلف صوتٍ عالٍ، وابتسامةٍ ساخرة، وكلماتٍ مسنونةٍ كنصل خنجرٍ مغروسٍ في خاصرة الصفاء
أشقى من أن يُحب، وأجهل من أن يُسامح. لأنّه اعتاد أن يقيس وزنه بمدى انشغال الناس به، ولو بالكره. يظنّ أن الأضواء لا تُسلّط إلا على من يُجيد الصراخ، ويؤمن أن العظمة تُستعار من سُقوط الآخرين
لكنّه، يا ويح قلبه، لا يدري أنّه لا يُقاتل إلا خوفه من العدم… من أن يمرّ في الحياة مرور النسمة دون أثر. من أن يكون هامشًا في كتاب الحياة، لا أحد يذكره، لا أحد يفتقده. فخلق حوله جدرانًا من العداوات، ونوافذ من الشك، وأبوابًا لا تُفتح إلا على خيبة
هو لا يكره الناس، بقدر ما يكره صمته. يخاف سكونه. يُرعبه أن يجلس وحده دون ضجيج، لأنّه إن فعل، سيسمع صوت خوائه يتردّد بين أضلاعه. فيُعيد إشعال معاركه، فقط ليهرب من صوته
كم من أعداء نسجهم من خيوط وهمٍ وخيال، ووشّاهم بقصصٍ لم تقع، ثم صدّق كذبته حتى بات ضحيّتها! يرتدي دروعًا لا ضرورة لها، ويشهر سيوفًا صدئةً في وجه أرواحٍ لم تنوِ أذيّته
وأعجبُ ما فيه أنّه لا يرى ذاته إلا في مرآة العداوة، ولا يسمع اسمه إلا في صدى شتيمة، ولا يطمئن إلا حين يشعل فتيل خصومةٍ جديدة، كمن يوقظ الوحش ليتأكد أنّه ما زال يملك القوّة
لكن، كم هو هشٌّ هذا الجبروت!كم هو هشٌّ قلبٌ لا ينبض إلا بالخوف، ولا يعيش إلا في مرايا الآخرين!كم هو صغيرٌ من لا يكبر إلا بتقزيم سواه، ولا يتنفس إلا إذا خنق الهواء من حوله
هو ضحيةُ وهمٍ صنعه بيده… يقاتل ظلالًا ويعود خالي الوفاض. يربح الحكاية ويخسر نفسه، ثم يضحك عاليًا، كما لو أنّ الصراخ يُخفي انكسار الروح
وفي النهاية، حين يُسدل الليل ستاره، ويغفو الجميع في هدوء، يبقى وحده مستيقظًا، يجمع فتات معاركه الخاسرة، ويضمها إلى صدره كأنّها انتصارات
يهمس لنفسه: «أنا موجود… أنا رأوني… أنا هُنا».ولا يدري أنّ أحدًا لم يرَه فعلًا، لأنّ من يصنع وجوده من نفي الآخرين، لا يُرى… بل يُخشى، ثم يُنسى