التسامح.. وهم النسيان

ما من أحد ينجو من الحياة دون أن يتورط في أذى. سنؤذي، وسنتأذى. سنفتح أبواب قلوبنا لمن يعبث بها، سنمنح الثقة لمن يحطمها، وسنبني جسورًا لآخرين قد يحرقونها دون تردد. لا أحد بريء من الخذلان، تمامًا كما لا أحد محصن من التعثر في دهاليز المشاعر التي لا ترحم. فالحياة ليست عادلة، ولا تمنحنا الوقت الكافي للتراجع عن الكلمات الجارحة أو إعادة ترتيب المشاعر المبعثرة. نحن نرتكب الأخطاء، أحيانًا ببراءة، وأحيانًا بتهور، ونُفاجأ بأن هناك من لا يستطيع أن يغفر لنا، تمامًا كما نعجز نحن عن الغفران في لحظات أخرى

يقولون: سامح وانسَ. وكأن التسامح مفتاح سحري يمحو الألم بضغطة زر. وكأن النسيان قرار يُتخذ بين ليلة وضحاها، وكأن القلب يُشفى بمجرد أن نرغب في شفائه. لكن الحقيقة، يا عزيزي، أن النسيان خرافة جميلة لا يختبرها إلا فاقدو الذاكرة. فكيف ننسى من مروا بنا كالإعصار، وتركوا في أرواحنا أطلالًا شاهدة على ما كان؟ كيف نمحو من دفاتر العمر من كتبوا فيها فصولًا من الفرح بحبر الحزن؟ كيف ننسى من علّمونا الحب، ثم علّمونا كيف نعيش بدونه؟

التسامح، إذن، ليس نسيانًا، بل تدريبٌ قاسٍ على الحياة دون أن نسمح للجراح بأن تكون مقودها. هو تمرينٌ يوميٌّ على ترويض الغضب، على كسر القيود التي تربطنا بأخطاء الماضي، على أن نحرر أرواحنا قبل أن نحرر الآخرين من ذنبهم. التسامح لا يُطلب، بل يُمنح كهدية لمن يستحق، أو كفعل أناني نفعله لأنفسنا حتى لا نتحول إلى رهائن للألم. التسامح هو أن نكف عن إعادة قراءة ذات الصفحة، أن نكف عن نبش الجراح بأطراف الذاكرة الحادة، وأن نتوقف عن السؤال الذي لا إجابة له: لماذا؟

أما النسيان؟ فذلك ترفٌ لا نملكه. لا أحد ينسى حقًا. نحن فقط نتعلم كيف نتعايش مع الذكرى دون أن تخنقنا. كيف نحمل الجرح كوشمٍ قديم، دون أن ينزف مع كل لمسة. كيف نسمع الأسماء التي كانت تعنينا دون أن يهتز صوتنا. كيف نمر بالأماكن التي جمعتنا دون أن نتوقف طويلًا عند عتبات الذكرى. نحاول، في كل مرة، أن نمضي بخفة، لكن شيئًا فينا يبقى معلقًا هناك، بين ما عشناه وما كنا نرجو أن نعيشه

وهناك ليالٍ، مهما أقنعنا أنفسنا أننا تجاوزنا، تعود فيها الذكريات أكثر سطوعًا من القمر. هناك لحظات، وسط الضحكات التي نحاول أن نملأ بها الفراغ، نشعر أننا غرباء عن أفراحنا، لأن جزءًا من قلوبنا ظل عالقًا في حب لم يكتمل، أو في عتاب لم يُقال. وحين يخفت الضجيج، ونسند رؤوسنا إلى الوسادة، نكتشف أن النسيان لم يزرنا بعد، وأن الغفران ما زال عالقًا بين القلب والعقل، بين الرغبة في المضي قدمًا، والخوف من أن نكون وحدنا في هذا الطريق

لكننا نكبر، وندرك أن ما كسرنا لم يكن سوى درس آخر في فن البقاء. نكتشف أن الحياة لا تتوقف عند الذين خذلونا، وأننا في كل مرة نُخذل، نصبح أكثر قدرة على التمسك بأنفسنا. ربما لا ننسى، وربما لا نسامح بالكامل، لكننا نمضي رغم كل شيء، ونحن نحمل في أعماقنا يقينًا واحدًا: أن الزمن لا يعيد إلينا من فقدناهم، لكنه يمنحنا دائمًا فرصة جديدة لنجد أنفسنا من جديد


Leave a Reply

You can add images to your comment by clicking here.

Filled Under: General, Thoughts